Syrian Arab Republic
This article was added by the user . TheWorldNews is not responsible for the content of the platform.

ماكنة الاحلام: ماكنة الاحلام

ماكنة الاحلام

كنت في السادسة أو السابعة أو بينهما، عندما لمع وجه أمي وهي تقول لأختي الكبرى.. يللا حضري حالك.. بدنا ننزل على السوق نشتري ماكنة خياطة.. بكرة بتتعلمي عليها وبتصيري تخيطيلنا الاواعي، بدل ما ندفع عليها مصاري كثير لأم هشام.

بما أنني كنت أعرف كل شيء عمّا يدور في بيتنا نحن ابناء العائلة المُهجّرة للتو من قريتها سيرين، اللاجئة في الناصرة، قلت لأمي: بدي آجي معك.

خلال دقائق هيأنا أنفسنا، أمي، أختي الكبرى وأنا، وانطلقنا باتجاه السوق. تلك واحدة من المرّات القليلة التي كان حُلمنا يمشي أمامنا وليس وراءنا.. نحن الثلاثة كنّا نحلم بأيام أفضل تُصلح فيها ماكنة الخياطة ما أفسده الدهر من أوضاعنا المعيشية. أنا كنت أحلم بشراء كتاب يضم قصة عن البطولة من ألف ليلة وليلة، أعدَّها للأطفال الكاتب العربي المصري كامل كيلاني. أختي.. كما ظهر على وجهها.. كانت تريد أن تتعلّم الخياطة بأسرع وقت لمساعدة أبناء العائلة وجعل حياتهم أفضل.. أما أمي فقد بدا من كل واحدة من حركاتها أنها اتخذت قرارًا مصيريًا.. فقد قالت أكثر من مرة إن أم هشام تَجرُمها جرمًا.. وتأخذ مقابل تخييطها لثوب لها مبالغ طائلة.

توقّف موكبنا العائلي في أول السوق.. استوقفت أمي عابرة طريق وسألتها عن دكان يبيع ماكنات الخياطة.. فأشارت عليها أن تمضي في الطريق دغري.. وقالت لها إنها سترى الماكنات تطل من فاترينة أحد المحلات.. خلال دقائق كنّا جميعًا نتوقف أمام محل بيع ماكنات الخياطة.. وراحت أمي تسأل أختى عن أي من الماكنات أعجبتها أكثر.. دون أن تستمع لرأيها.. ربّما كانت تفكر في المبلغ الذي ادخرته لهذه الساعة العصيبة.. وهل يكفي لشراء ماكنة خياطة؟.. حاولت أمي فتح باب الدكان الزجاجي، إلا أنها لم تفلح.. وبينما هي تستدير لتشكو أمرها الينا، أختى الكبرى وأنا صغيرها الفطن النبيه، وإذا بشخص يجري باتجاه الفاترينة.. وسرعان ما تبيّنا أنه صاحب المحلّ.. دخلنا المحل وسط ترحيبه واعتذاره لنا لأنه ترك دكانه لأمر ضروري.. غير أننا جميعًا كنّا منشغليبن بأمر آخر.. ترى أي الماكنات ستكون من نصيبنا؟

لم يطل الانتظار، توجّهت أمي إلى صاحب المحلّ، وهي تطلب منه أن يقترح عليها ماكنة رخيصة وكويسة وبنت ناس.. صاحب المحلّ شرع بعرض ما لديه من ماكنات خياطة.. وبعد نقاش طويل أقنع الوالدة بأن تشتري ماكنة قدم وليس يد. وأضاف يقول لها لديّ ماكنة جديدة في السوق اسمها سنجر.. ما إن نطق هذه الكلمة الاخيرة حتى لمع وجه أمي.. وقالت بس هذه ماكنة غالية الثمن.. فقال لها فعلًا هي غالية.. لكنّها عملية.. عندما نطق البائع بثمن الماكنة رأيت الحيرة على وجه أمي. وقبل أن تنطق بأي كلمة رأيت البائع يقول لها بإمكانك دفع المتوفّر لديك وسوف أقسّط لك المتبقي من المبلغ، بأقساط شهرية مريحة. بدا أن الفكرة راقت لأمي فتقدّمت إليه قائلة أنت لا تعرفنا.. خلّ الماكنة عندك.. وعندما نسدّد لك كل ثمنها نأتي إليك لأخذها.. تناول صاحب الدكان المبلغ من يد أمي الفرحة بما أنجزته، وخرجنا من الدكان والفرح الغامر يطلّ علينا من كل جانب..

بعد قُرابة السنتين توجّهت إلينا أمي مبشّرة إيانا.. اليوم دفعت آخر كمبيالة من ثمن ماكنة الخياطة.. ألله يطوّل عمر سنجر.. كثير ساعدنا.. سألتها أختى الكبرى أين الماكنة؟ فأخبرتها أنها في الطريق إلينا في بيتنا القائم في أعماق الجبل. وأن سنجر سيحضرها في ساعات فرصة الغداء.

في الساعات المحدّدة.. دخلت ماكنة الخياطة إلى بيتنا مثل عروس في ذروة زهوتها.. فأنزلتها الوالدة أفضل محل في البيت.. وقامت بتغطيتها بكساء كي لا تتسخ.. وكانت عندما يزورنا أناس تحبّهم وتقدّرهم.. تصطحبهم إلى حيث تسترخي ضيفتنا الغالية العزيزة لتريهم إطلالتها الجميلة البهية.. ولتتحدث إليهم عمّا ستؤديه هذه الماكنة من دور في رفاهنا العائلي.

بعدها مضت الايام.. لا أتذكر أن أختي تعلّمت الخياطة.. وجاء مَن يطلب يدَها وهي لمّا تزل صبية غضة الاهاب، فتزوّجت. ومما أذكره أن أمي حاولت أكثر من مرة وعلى فترات متباعدة أن تستعين بماكنة سنجر في إصلاح ما تمزّق من ملابسنا.. إلا أنها لم تنجح.. وكانت تعود إلى إبرتها وخيطها قائلة.. الخياطة في الابرة أسهل.. بُكرة بتعلّم الخياطة وبصلح كل ما تمزق من ثيابنا..

مضى الوقت مُسرعًا مثل بساط الريح.. ووصلنا أخيرًا إلى النهاية.. كان ذلك قبل عقد من الزمن.. توفيت أمي.. وغادرتُ لأقيم في بيت بعيد.. في أول زيارة لي إلى بيتنا القديم.. كان أول ما أحببت الاطمئنان عليه.. الماكنة.. ذهبت إليها في مكانها.. كان الصدأ قد علاها.. وكانت خزانتها قد تهاوت بفعل الزمن.. تمعّنت فيها جيدًا.. فرأيتها بقية حلم.

Print This Post