Syrian Arab Republic
This article was added by the user . TheWorldNews is not responsible for the content of the platform.

أسعد الأمير أحمد: محنة الكاتب بين التلميح والتوضيح

أسعد الأمير أحمد

تكمن محنة الكاتب في البلدان التي تُعاني التسلط في محاولاته مع كل نص الهروب من المواجهة المباشرة واختياره لأسلوب التلميح بدل أسلوب التوضيح والمباشرة، يحاول ما استطاع أن يُنجز نصاً يقول فيه ما يشاء لكنه يوازن بين بعض حريته وأفكاره وبين حياته محاولاً الحفاظ على الاثنين معاً مُتخذاً من حوادث التاريخ أمثلة عن الإقصاء الذي تُسببه الكلمة ابتداء من إعدام سقراط مروراً بمقتل الحلّاج وشيخ الإشراق السهروردي وليس انتهاء بمحاكمة غاليليو ونبذ وطرد اسبينوزا ولذلك فغالباً ما يحاول الكاتب المواربة واستخدام اللغة حين يكون النص مُتخِذاً من أحد التابوهات الثلاثة موضوعاً له، فالجنس والدين والسياسة لها أدواتها العقابية من المجتمع إلى حُرَّاس العقائد إلى الدولة عبر قانونها ومهما كان ضغط المجتمع شديداً إلا أنه يبقى أهون من ضغط حُرَّاس العقائد حين يكون موضوع النص هو الدين وضغط السلطة حين يكون موضوع النص السياسة.

 وهذا الخوف الذي يجد الكاتب نفسه بمواجهته ليس حكراً على شعبٍ بذاته بل أينما وجد التسلّط وجِد هذا الخوف فديكارت الأب الروحي للتنوير الأوروبي خاف تسلط رجال الكنيسة خاصة بعد محاكمة غاليليو واتهامه بالكفر (1633) فلم يُنشَر كتابه (العالَم) الذي يوافق فيه غاليليو بفكرة دوران الأرض إلا بعد ثلاثين عاماً وكان قد توفي حينذاك، وأهدى كتابه تأملات في الفلسفة الأولى (1641) إلى العلماء والعمداء في كلية أصول الدين بباريس، بينما نجد مُفكراً آخر وهو باروخ اسبينوزا (1632-1677) الذي تأثر بالمنهج الديكارتي يُصبح منبوذاً ومطروداً من عائلته اليهودية ومن حرّاس العقيدة اليهود بسبب تمرده الواضح والذي سيظهر لاحقاً في كتبه خاصة في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة الذي حاول البرهنة فيه على أن الأسفار الخمسة غير صحيحة ويقول في الفصل الرابع عشر من الكتاب أن الإيمان يتطلب عقائد تحث على التقوى وقادرة على توجيه معتنقيها إلى الطاعة أكثر مما يتطلب عقائد صحيحة.

 لذلك نجِد أن حُرّاس العقائد والساسة يرون في الكلمة خطراً ينبغي شطبها قبل أن تنتشر وتُفسد البناء الذي تقوم عليه سلطتهم، ويكمن الخوف الأكبر حين يستثمر حُرَّاس العقيدة قانون السلطة السياسية أو يتحدان معاً فيجد المفكر نفسه في مواجهة السلطة الدينية والسياسية في آن واحد، وخير هذه الأمثلة ما تعرض له المفكر المصري نصر حامد أبو زيد بعد أن تم إعلان أنه مُرتد من قبل حُرّاس العقيدة المسلمين وتم تسجيل دعوى قضائية بأن المرتد لا يجوز له الزواج من مسلمة وعلى إثر ذلك تم التفريق بينه وبين زوجته وكل ذلك قد جرى ذلك تحت اسم القانون والقضاء وإننا نجد أن القوانين العربية تترك نافذة مفتوحة دائماً للحد من حرية المفكر أو لملاحقته حين يُغرد خارج السرب فعلى سبيل المثال في قانون العقوبات المصري جرم إزدراء الأديان المنصوص عنها في المادة 98 وتصل العقوبة على هذا الجرم فيه إلى السجن خمس سنوات و في الأردن جرم إهانة الشعور الديني المنصوص عنها في المادة 278 وفي القانون اللبناني جرم النيل من هيبة الدولة في المادة 296 ومثله في القانون السوري في المادة 285 و286 منه، وجرم التعرض للأخلاق العامة في المادة 518 ، وحين نُدقق في مفردات هذه النصوص فإننا نجدها مبهمة و خاضعة للتأويل وفق رؤية القاضي عِلماً أن القوانين ينبغي أن تكون واضحة ومحددة لا لبس فيها أو غموض، فنجد في تلك النصوص أنها تحمي الحوادث التاريخية المُقدسة باعتبارها حقائق مُطلقة غير قابل للبحث التاريخي بما لها وما عليها كمثل جرم التعرض للشعور الديني وإهانته، هل أهان شيخ الإشراق السهروردي شعور فقهاء حلب عندما قاموا بالحوار معه.

 الحوار الذي أدى لمقتله في النهاية بأمر السلطة وقتذاك، هنا نجد أن ما قاله المفكر المصري يوسف زيدان بأنه لا جدوى من الجدل الديني صحيحاً إذا قد يجد المُفكر نفسه  يتعرض لتهمة إهانة هذه المشاعر  ولا يغيب عن البال الهجوم الذي تعرض له زيدان نفسه بمجرد أن ذكر صلاح الدين الأيوبي برأي لا يوافق الوعي الجمعي.

 لا ينتبه المشتغلون في حقل القانون إلى وجود أخطاء في مفردات هذه النصوص فمثلاً كيف يكون للدولة نفسية حتى توهَن وما الدولة إلا مصطلح سياسي يُعبر عن شخصية اعتبارية تُنظم حياة الناس في إطار جامعٍ لهم، وهذا الجُرم إنما وجِد ليكون سيفاً مُسلطاً على رقاب من لهم رأي يُخالف رأي السلطة، ومن المعلوم أن الدول الديمقراطية تُحاسب على الأفعال لا الأقوال لكن في نصوصنا القانونية القاصرة قد يُحاكم المرء على فكره وقوله قبل فعله، فكيف قد تُصبح الأخلاق العامة جريمة يُـتَّهم بالتعرض لها مُفكر ينتقدها فمن الذي يُحدد تلك الأخلاق ومن المعلوم أن الدولة قد تحتوي تشكيلات اجتماعية مُختلفة ومتنوعة بعاداتها وتقاليدها قد يكون ما في أحدها مخالفاً لأخلاق الأخرى وعاداته وتقاليده، قد يغدو اللباس في مكان ما مُخالف لأخلاق مكان آخر والعكس صحيح فضلاً عن أن الأخلاق نسبية وليست ثابتة قما كان أخلاقي في زمان قد يُصبح غير أخلاقي في زمان آخر والعس صحيح، إذن هل يكون المفكر مُحقاً باللجوء للتلميح في محاولة بث أفكاره حفاظاً على بعض حياته ويبرر تلميحه بالخوف إذ أنه شاهدٌ على ما تعرَّض له سواه أم أن عليه المجازفة؟

Print This Post