Syrian Arab Republic
This article was added by the user . TheWorldNews is not responsible for the content of the platform.

د. احمد عبد الحق: الفيلم الأردني “الحارة” ودهشة اللحظات الأولى

د. احمد عبد الحق

أثار الفيلم الأردني “الحارة” الذي يعرض على منصة نيتفليكس وفي بعض دور العرض في الأردن و عدد من الدول العربية جدلاً واسعاً على الصعيدين المحلي و الإقليمي. فقد تناوله عدد كبير العابرين وعدد قليل من المهتمين الجادين. و تعرض للغط من الحديث و للمُرسل من القول  و اجمع السواد الأعظم من المتخصصين على الإشادة بالفيلم و دوره في ابراز الفن السينمائي الأردني كمنافس حقيقي على الساحة العربية،  في ما نحت الغالبية العظمى من العابرين الى ادانة الفيلم و جلده لدواع غير جوهرية و جزيئات لا أهمية فنية لها. و بلغ الامر بالبعض ان طالبوا بسحب جنسية بعض طاقم الفيلم لأنه يشوّه ، كما يزعمون ، الصورة الوردية المفترضة للمجتمع الأردني .

تدور احداث الفيلم في احدى ضواحي عماّن الشرقيّة حول الشخصية الرئيسية للفيلم “علي” (عماد عزمي) وهو شاب محتال ولكنه قريب من القلب يحاول، تقرّباً من حبيبته لانا (بركه رحماني)، ابنة “أسيل” ( نادرة عمران) صاحبة صالون تجميل نسائي،  تقمّص شخصية رجل أعمال فهلوي ولكنه لا  يتمكن من تجاوز حجمه الحقيقي كأحد الوسطاء الكثيرين لنوادٍ ليلية مشبوهة توفر للراغبين من زوار عمّان و سائحيها ما يبحثون عنه في عتمة الشوارع الحمراء.

يتمكن مترصدٌ من مراقبة “علي” في زياراته لـ “لانا”  وينجح في تصويرهما، عبر النافذة المفتوحة، في وضع جريء ثم يبدأ في محاولة ابتزاز “أسيل” بتهديدها بنشر صور ابنتها و عشيقها على الملأ. تلجأ “أسيل”، الحريصة على سمعتها وسمعة صالونها في بيئة يكثر فيها القيل والقال وتنتشر فيها الثرثرة والفضول وحكايا الازقة الضيقة، الى بلطجي الحارة الكبير وجامع الاتاوات الذي لا يعرف خطوطاً حمراء “عباس”  (منذر رياحنة) وساعده الأيمن “هنادي” ( ميساء عبد الهادي ) ، طالبة المساعدة لإيقاف المبتز عند حده وابعاد عليّ عن ابنتها. لم يتردد “المعلم” و عصابته في تقديم المساعدة لـ “أسيل”، و لكن مقايضته كانت اشتراطه ان تقوم هي بـالاعتناء بـ “البنات” وتجهيزهن لما يُطلب منهن القيام به.

تتسارع الاحداث و يحتدم الصراع بين “علي” و المعلم الكبير “عباس”.  يقنع “علي” حبيبته بالهروب معه للزواج والعيش خارج البلاد فتوافق، و لكنه في اللحظة الأخيرة، وفي محاولة للهروب الى الامام، يقرر تصفية حسابه مع “عباس” مرة واحدة و الى الابد فيتصيّده و يتمكن منه، ويسطو على كل ما جمعه من أموال الاتاوات والسمسرة والبلطجة و يتركه مقيّداً مقطوع اللسان.

تكتشف “لانا” ما أقدم عليه “علي” فتدرك ان حبيبها ليس كما كانت تعتقد فتغير موقفها وترفض مرافقته. تتوالى الأحداث وتنتهي نهاية مفتوحة يموت فيها “علي” على يد “اسيل” و طليقها الساقط ويُقتل “عباس” و يتنازع المتنازعون ما بقي من غنائم ويعود مسار الحياة الى منزلق العنف والبلطجة والبؤس الذي يطبع حياة الناس في ازقة المدن الفقيرة.

توفر لـ ” الحارة ” العديد من العوامل التي لعبت، او كان من الممكن ان تلعب ، دوراً  في تحقيق نجاح ملموس على الصعيدين المحليّ و العالميّ. فهو ثالث أعمال المخرج الأردني المقيم في لندن باسل غندور بعد فيلميه  ” ذيب ” الذي رُشح للأوسكار عام  2016 عام و حصل على جائزة بافتا BAFTA البريطانية في نفس السنة، و فيلم الدراما القصير ” فريكة ” الذي عرض عام ٢.١٩. كما ان ” الحارة ” لم تعزه الإمكانيات المطلوبة ، فقد حظي بدعم سخيّ من جهات متعددة من بينها الهيئة الملكية للأفلام في الأردن و المؤسسة القطرية –  الدوحة للأفلام و معمل مهرجان البحر الأحمر السينمائي لتطوير الأفلام في السعودية. كما تلقى مساندة من ورشة راوي EAVE   للمنتجين  و من ملتقى دبي السينمائي و كذلك من منتدى سورفند السينمائي في النرويج

لا يمكن تناوُلُ ” الحارة ” بمعزل عن ما قدمته الدراما الأردنية خلال السنوات القليلة الماضية، ولا ينبغي التعامل معه كمنتج لصناعة سينمائية أردنية تحبو ، فهي لم تعد كذلك . لقد انقضى زمن احتكار الرعيل الأول للدراما الأردنية و حصرها ضمن أطر و كليشيهات بلغت حد الجمود، و ظهرت، خلال العقدين الأخيرين، أسماء جديدة شابة محترفة تجاوزت التقليدي و اقتربت من السينما باعتبارها فنّاً احترافياً مؤهلاً، اكاديمياً و مهنياً، قادراً على حمل محليته الى العالمية. فرأينا أسماء اردنية لمعت في فضاء الدراما السورية و المصرية و حققت فيهما بطولات أولى و مطلقة و رأينا أعمالاً هامة تمكنت من الوصول الى قوائم المهرجانات الدولية و حقق بعضها جوائز هامة.

على صعيد المضمون ، و دون تحميل العمل أكثر مما يحتمل و دون الغوص في ما قيل عن رمزيته و إمكانية اسقاطه على مدار أوسع و اكثر شمولية ، تمكن الفيلم من تسليط الضوء على جوانب مظلمة من نمط الحياة في الكثير من المدن العربية و لم تكن عمّان الا مثالاً على عدد منها. تناول الفيلم عالماً تغيب فيه سلطة القانون و هيبة الدولة و تحكمه عصابات تُشكّله وفقاً لأجندتها   و مصالحها وتزدهر فيه الجريمة و تصفية الحسابات. و تناول انماطاً من السلوك المجتمعي الذي يسود في العديد من الحواري والازقة ، فهذه مُطلّقة تبحث عن “السُتْرة ” في مجتمع منغلق ثرثار فتدير صالون تجميل نسائي تجتمع فيه الخاطبات والباحثات عن شباب الأيام الخوالي ، و ذاك نصّاب يبحث عن فريسة صاخبة المكياج و الحركة يقدمها لمن يدفع من رجال الليل والكيف، وتلك صبية تحلم بفارس أحلام لا يملك فرساً ، و رابع بلطجي ينصّب نفسه مسؤولاً عن الحارة وما فيها.

كانت لغة الحوار والتعابير المستخدمة في الفيلم هي اكثر ما أثار حفيظة العديد من القراء او المشاهدين. و لم تخرج دائرة تناول الفيلم عن تلك الحوارات الهامشية. و من الانصاف القول ان هذه الجزيئة الشكلية كانت ضرورية لخدمة الشخصيات التي تستخدمها لتجعلها مقنعة و منسجمة مع الدور الذي تلعبه. و لكن التناول العادل يستلزم الاستناد الى ذات المعايير و التخييط بنفس المسلّة عند الحديث عن الجوانب الأخرى الأكثر أهمية من ظاهر الأمور.  ففي حين يقر المشاهد بضرورة استخدام لغة الشارع دون تدخّل خدمة للشخصية ولجعلها مقنعة ، فان الجوانب الأخرى من العمل يجب ان تكون كذلك مقنعة و قريبة من الواقع. و من هذا الباب ، و من باب ان هذا الفيلم لا يمكن ان يُعامل كعمل هواة او مبتدئين و انما على خلفية نجاحات أردنية سابقة،  يمكن النظر الى ما قد يُعتبر تعثراً و ان كان بسيطاً. لقد استأثرت لغة الحوار بما استأثرت به من نقاش و مداولات على أكثر من صعيد ،  و من باب أولى ان تُطرح الجوانب الأخرى للبحث و القراءة.

تُبيّن المَشاهدُ الأولى من الفيلم شابّاً عاري الصدر يتحدث عبر هاتفه بصوت عال غير مرتبك وهو يذرع غرفة حبيبته دون ادنى توتر او قلق. ثم يلقي بنفسه الى جوارها يتضاحكان و كأنهما في جزيرة في عرض البحر حيث لا رقيب و لا حسيب. يقومان بما يقومان به دون محاولة للتواري او اغلاق الستائر او إطفاء الانوار. فاذا علمنا ان هذا الشاب قد تسلل الى الغرفة عبر نافذتها هابطاً من سطح البيت في محاولة لتفادي أي فضولي او عابر ، فان هذا المشهد ينسف ما يقال عن اقتراب العمل من الواقعية.

و استطراداً ، كيف يتمكن مترصد من التقاط صور لـ “علي” و”لانا” في أوضاع جريئة عبر نافذة لا ندري سبباً لبقائها مُشرعة في حارة ذات ابنية متلاصقة و ذات طبيعة عشوائية ؟  ، و كيف تدخل بنات ” عباس ” الى صالون ” أسيل ” للمرة الأولى دخول المعتاد؟ . وكيف يتمكن ” توتو ” من نقل جثة في سيارة مفتوحة في هذه الحارة المكتظة بالسكان واللغط والضجيج؟ وكيف يرتدي سكان هذا الحي الفقير ، كلهم ، ملابس حداد سوداء و هم بالكاد يملكون ما لا يكاد يستر عوراتهم ؟ و لماذا قُتل ” عباس ” و ” علي ” في ظروف غير منطقية و لا مُحمكة فنياً؟

على ان احد اهم النقاط التي يتجدر الإشارة اليها تتعلق بالغياب الكامل للسلطة و لرجال الأمن في قلب مدينة كبيرة. قد يكون مرد الغياب هذا هو خشية المخرج من الوقوع تحت طائلة المسائلة و المنع او القص على افضل تقدير. فالفيلم لا يمكن ان يعرض صورة وردية عن تعامل رجال الامن مع المشتبهين او أصحاب السوابق. و لا يمكن ان يُغفِل ما يقال عن الاعتداء على حقوق الانسان في بلد يرتفع فيه شعار لا يقتنع به أحد ” الانسان أغلى ما نملك ” ، و لذلك فقد اختار طاقم العمل تغييب أي دور للسلطة و لرجال الامن منعا لمسائلتهم بتهمة ” الانتقاص من هيبة الدولة ” و هي تهمة جاهزة يمكن استخدامها وفقاً لهوى بعض المسؤولين و المتنفذين دون وجه حق كما حدث مع الفيلم الأردني الممتاز   ” ان شاء الله استفدت ” لمحمود مساد.

مع الإقرار بان حجم الجريمة و انتشارها في الأردن ليس ضئيلاً ، و ان تسليط الضوء على هذا الجانب المهم من جوانب الحياة المجتمعية للأردنيين  ضروري و مفيد ، الا ان تناول ” الحارة ” لهذا الجانب و كأننا في بلد لا وجود لرجل الامن فيه ، بغض النظر عن كفاءته او التزامه بالأصول ، بعيد عن الواقع. فقد رأينا “علي” و”عباس” يُقتلان و كأنهما في غابة لا قانون فيها و سلطة.      و تعم الفوضى و تعيش الحارة أجواءً امنية مُنفلته لا يمكن تصديقها ، ثم نرى بعض شخصيات الحارة تعود الى حياتها و كأن شيئاً لم يكن.

هذا الهروب يُضعف العمل، وعندما يبهت الانبهار الأوَّلي و تتلاشى دهشة اللحظات الأولى ، و عندما نتحدث عن سينما أردنية اشتد عودها في السنوات القليلة الماضية فإننا نجد انفسنا امام عمل هام كان يمكن له تجاوز بعض الهنات ليتبوأ المكانة التي يستحقها.

ابدع الكادر التمثيلي، واستطاعت ميساء عبد الهادي بشكل خاص، ونادرة عمران والآخرون، الوصول الينا نجوماً  ينتظرهم الكثير. شخصيات قوية و أداء ترفع له القبعات.

يستحق طاقم “الحارة” الإشادة والتصفيق، ولا ينال من ذلك ملاحظات تُقال من باب التقدير والحرص ليس الاّ.

بيانات العمل

الفيلم                         :               ” الحارة ” The Alleys

مدة العرض              :               116 دقيقة

تاريخ الإنتاج            :               2020

شركات الانتاج         :               بيت الشوارب للإنتاج الإعلامي – الاردن

                                                لاقوني لإنتاج الأفلام – مصر

                                                أفلام ايماجينيريوم – الاردن

انتاج                         :               يوسف عبد النبي

                                                رولا الناصر

                                                شاهناز العقاد

الداعمون                  :               الهيئة الملكية للأفلام – الأردن

                                                مؤسسة الدوحة للأفلام – قطر

                                                معمل مهرجان البحر الأحمر السينمائي لتطوير الأفلام – السعودية.

مساندة                      :               ورشة راوي EAVE   للمنتجين

                                                ملتقى دبي السينمائي

                                                منتدى سورفند السينمائي – النرويج

اخراج                      :               باسل غندور

مدير التصوير          :               جستن هاميلتون

موسيقى                    :               ناصر شرف

تصميم انتاج             :               أنس بلوي

                                                رند عبد النور

الكادر التمثيلي          :               عماد عزمي ( علي )

                                                بركه رحماني ( لانا )

                                                نادرة عمران ( أسيل )

                                                منذر رياحنة ( عباس )

                                                ميساء عبد الهادي ( هديل )

                                                نديم الريماوي ( توتو )

( كاتب اردني مقيم في ايرلندا )

Print This Post